ترددت كثيراً قبل أن أكتب هذا المقال، فهو يتناول أحد الأمور التي يخطئ فيها كثيرٌ من المهتمين بالعلوم الإنسانية...
تتكرر في مسامعنا جملة: التحكم في الذات، أو إسكات الشهوة،،،يتفننُ دعاةٌ في شرحها بطرقٍ جذابة، تشعرُكَ بروحانية عالية،،،، سرعان ما تهبط إذا ما تعرضْتَ لموقفٍ حياتي ألزمكَ تطبيق ما تعلمته!!!
سأتناول الموضوع بمنطقيةٍ تامة، وقد يحتمل الصوابَ أو الخطأ، وقد يتفق معي البعض ويختلف الآخر، ولكن كل ما أطلبه منك عزيزي القارئ أن تترك ما يشغلكَ وتركز معي جيداً ...فلعلك تبحث جدياًّ في هذا المجال بعد قراءتكَ لكلماتي.
نحن مميزون في خلقنا، سُيّرت لنا الدواب والأنعام، وأُورثْنا الأرض نعمرها كيفما نشاء، ميّزنا الله عن باقي الخلائق، فقال عز من قائل: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ .
وهذا التميز يظهر في صورة جسدٍ مكتمل الأركان، ونفسٍ رائعةِ الكمال،
تلك النفس ضمنها الله فطراتٍ أضفت لنا الإنسانية...هذه الفطرات تتمثل في حبٍ للمال والأنفس والشهوات، وكذلك الفطرة الإيمانية التي سيرتكز عليها مقالي.
دعونا نتأمل جيداً في قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ
سبحان الله!!! خلق الله الفطرة الإيمانية مرتسخةً في أنفسنا، ولكن يبدو أنها لن تسيّرنا في الصراط المستقيم حتى نقوم بشحنها بالعبادات، ويمكن استخلاص ما أقول من قوله عز وجل : فأقم وجك للدين حنيفاً.
وهنا تكمن حكمة الله عز وجل في أنه جعلنا نملك أنفسنا، نملك قرارها، هل ندفعها للإيمان أم نجرها عنه... هل سنترك الشيطان ليتملكها عنا، أم سنطرده من دنيانا.
ستتعجب إن قلت لك أن الفطرة الإيمانية تتنوع مناصبها من شخص إلى آخر...بمعنى ...أن ضعاف الإيمان ومن تتحكم فيهم شهواتهم دائما ما تجد فطرتهم الإيمانية تخضع لسيطرة باقي الفطرات، فلا تتولى أي منصبٍ عالٍ في النفس ولا يكون لها أي قيمةٍ تذكر.
في حين أن المؤمن التقي دائما ما تكون فطرته الإيمانية أميرةً على باقي الفطرات، فيخضع حب المال للإيمان ...ليكون الإنسان وسطياُ في إنفاقه لا ممسكاً ولا مبذرا، يراعي حقوق غيره المالية ولا يتعدى عليها برباً أو سرقة .
ويخضع له حب النفس، فتراه لا يبالغ في تطبيق مبدأ الإيثار الذي علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي نفس الوقت لا يدهس غيره لتحقيق مصالح شخصية !!!
وتنصاع له الشهوة ...فتراه يوجه شهوته إلى حلالٍ لا حرام،،، وسأقف عند هذه النقطة مع حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: من استطاع الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء.
لِمَ اختار الرسول صلى الله عليه وسلم الصوم وقايةً لنا من الانحراف بشهوتنا عن الصراط المستقيم ( وبالطبع كلامه موحىً من رب العزة). أولم يملك أن يأمرنا باسكات شهواتنا او التحكم في ذاتنا قدر المستطاع؟؟!! إذاً ففي الأمر حكمةٌ ربانية، نجدها في قدرة الصوم (باعتباره عبادةً عظيمةً وركناً من أركان الإسلام) على شحن الفطرة الإيمانية في النفس البشرية كي تتمكن من التحكم في شهوات الإنسان.
قد يقول البعض، أن الكافر إذا علمناه الصيام الإسلامي وأدّاه كما ينبغي له أن يؤدى، فسيتحكم في شهوته....سأقول له بالتأكيد ، ولكن ماذا بعد الإفطار؟ هل سيدفعه ذلك إلى العزوف عن الزنا إن كان ممارساً له؟؟!!
إذا ما الذي يميز المؤمن عن غيره ؟؟؟؟!!!!!!!!!
ببساطة،،، نحن نصوم كي يجزينا الله أجر صيامنا،،،، إذاً هنالك دافعٌ روحانيٌّ إيماني... ولا تنسى أن الله قد من علينا بنعمة الصلاة، وتحدث عنها في كتابه الحكيم، فقال: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ .
إذاً هي عبادات متكاملة...صلاةٌ فزكاةٌ فصيامٌ فحج...
هذه العبادات من جنس فطرة الإنسان...وواجبنا نحو هذه الفطرة أن نشحنها باستمرار، لتتولى بدورها التحكم في باقي الفطرات بطريقة مثالية...وهذا ما أردت أن أصل إليه في حديثي معكم .
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده يعلن أمامه رغبته في الزنى، فتجلت الحكمة النبوية هنا بأن استثار في نفس الرجل عصبية العرب وذودهم عن أعراضهم، فقال له صلى الله عليه وسلم: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله ، جعلنى الله فداءك.قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم".
قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: "لا والله يا رسول الله ، جعلنى الله فداءك".
قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم... إلى آخر الحديث حتى دعا له صلى الله عليه وسلم، فما كان في نفس الرجل من شيء من الزنا.
وهنا نتعلم اتجاها نبيوياً آخر في قيادة النفس، وهو التلطف معها عند إصابتها بالشهوة الانفعالية، لأن أي محاولة لتعنيفها قد يسبب انقلاباً عسكريًّا داخلياًّ!!!
ويمكننا أيضا بموجب الحكمة النبوية أن نستثير العصبية الداخلية في النفس، والتي تأبى أن يمس أحد عرضنا أو عرض أهلنا بسوء، وهذا سيؤدي في نهاية المطاف إلى تهدئة شهواتنا.
التحكم في النفس يكون ذاتيًّا وليس بفعلنا، نحن نتولى فقط قيادتها وشحنها بالعبادات، ولا ينبغي لنا أن نسكت شهوتنا بأنفسنا كي نحقق إيمانا كاملا...
هل سألت نفسك، لم تثور علينا الأحصنة إن بالغنا في ضربها؟ الجواب واضح...لأن القسوة تجلب ثورةً مضادة....أما الترويض فيجلب طاعةً دائمة،،،،،القسوة على النفس تتجلى في تعريضها لضغطٍ مضاعف، يكمن في إجبارها على أمرٍ معين.
لم لا نتعامل مع أنفسنا بلين؟ دين الله يسرٌ لا عسر فيه، وسنروض أنفسنا بعباداتٍ نخشع فيها إلى الله.
ألم تلاحظ أنك تكثر من معصية ربك كلما ابتعدت عنه؟؟!! أتريد أن تقنعني أنك ستتحكم في نفسك حتى مع بعدك عنه ؟؟؟ أراهنك على أنك ستكون عنيفاً جدا... وسيظهر ذلك في تصرفاتك.
وهذا يذكرني بشيء تعلمته في الصيدلة..... عند تناول الأدوية التي تقوم بغلق المستقبلات في الجسم (Receptors) لفترةٍ طويلة، ثم الامتناع عنها فجأة، سيؤدي حتماً إلى تأثيرٍ عكسي (withdrowal symptoms)، وذلك لأن المستقبلات قد وصلت لمرحلة التعطش (upregulation) ....تغلق شهوتك باستمرار،،فتتعطش باستمرار، فتثور عليك وتنغص حياتك !!!
أما عندما توقف الدواء بشكلٍ تدريجي، فتأكد أنك لن تعاني من أي تأثيرٍ عكسي ( وهذا يتمثل في دور العبادات، لأنها تقرب العبد إلى ربه وتبعده عن المعصية شيئاً فشيئا ولا تنتزع فتيل المعصية بشكل مفاجئ!!!).
الذي يفهم التحكم في الذات وإسكات الشهوة بمعناه اللفظي، سيجد صعوبةً في تطبيقه بشكلٍ عملي، ويتجلى ذلك فيمن يعلنون التزامهم، ثم يتخبط بعضهم بعد ذلك في علاقاته الاجتماعية، ليزداد قسوةً على زوجته وإخوته، يأمرهم بحزمٍ ويكرههم في الدين،،،،يتشدد في صغائر الأمور ويكفّرُ في كبيرها ...وبعضهم ينحرف بعد ذلك عن الصراط المستقيم!!!
إذاً، التحكم في الذات يكون واقعيًّا إن كان ذاتيًّأ،، أو بلغة الطب (Involuntary)،
أم التحكم الفعلي (Voluntary)، فيشكل عبئاً إضافيًّا على النفس.
وأختم مقالي بمقولةٍ أعجبتني كثيراً: لا تكن يابساً فتكسر ولا ليّناً فتعصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق